نبذة من فضائله:-
لما التقى الناس بمؤتة جلس النبي (صلى الله عليه وآله) على المنبر وكشف له ما بينه وبين الشام فهو ينظر إلى معتركهم وأخذ يحدث المسلمين إلى أن قال: ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب، فجاءه الشيطان فمناه الحياة وكره إليه الموت فقال: الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين تمنيني الدنيا، ثم مضى حتى استشهد فصلى عليه ودعا له ثم قال: استغفروا لأخيكم فإنه شهيد دخل الجنة فهو يطير في الجنة بجناحين من ياقوت حيث شاء من الجنة.
وفي الحديث أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: لقد رأيته في الجنة - يعني جعفرَ - له جناحان مضرجان بالدماء مصبوغ القوادم، وفي حديث آخر: إن لجعفر جناحين يطير بهما في الجنة مع الملائكة.
وروي أيضاً أن النبي (صلى الله عليه وآله) نعى جعفر وزيداً قبل أن يجيء إليه خبرهما، نعاهما وعيناه تذرفان. وقال (صلى الله عليه وآله): اللهم اخلف جعفرَ في أهله كما خلفت عبداً من عبادك الصالحين.
ولما أتى النبي (صلى الله عليه وآله) نعي جعفر (رضي الله عنه) أتى إلى امرأته أسماء بنت عُميس فعزّاها في زوجها جعفر (رضي الله عنه) ودخلت فاطمة (عليها السلام) وهي تبكي وتقول: واعماه، فقال (صلى الله عليه وآله): (على مثل جعفر فلتبك البواكي).
وفي الاستيعاب (ج1، ص 548): أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) نعي جعفر وزيد بن حارثة، فبكى وقال: أخواي ومؤنساي ومحدثاي.
وفي الإصابة (ج1، ص 238): كان جعفر يحب المساكين ويجلس إليهم ويخدمهم ويخدمونه، يحدثهم ويحدثونه فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يكنيه (أبا المساكين)، وفي مقاتل الطالبيين عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال:
خير الناس حمزة وجعفر وعلي:-
وينقل ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة (ج3، ص 406): عن عبد الله بن جعفر حيث يقول: أنا أحفظ حين دخل النبي على أمي فنعى إليها أبي فأنظر إليه وهو يمسح على رأسي ورأس أخي وعيناه تهرقان بالدمع حتى قطرت لحيته ثم قال: اللهم أن جعفر قدم إلى أحسن الثواب فاخلفه في ذريته بأحسن ما خلفت أحداً من عبادك في ذريته.
ثم قال: يا أسماء ألا أبشرك؟ قالت: بلى بأبي وأمي، قال: فإن الله جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنة. قالت: بأبي وأمي فأعلم الناس بذلك. فقام وأخذ بيدي يمسح بيده على رأسي حتى رقى على المنبر وأجلسني أمامه على الدرجة السفلى وإن الحزن ليعرف عليه فتكلم فقال: (إن المرء كثير بأخيه وابن عمه ألا إن جعفر قد استشهد وقد جعل الله له جناحين يطير بهما في الجنة).
ثم نزل فدخل بيته وأدخلني وأمر بطعام فصنع لنا وأرسل إلى أخي فتغدينا عنده غداءً طيباً عمدت سلمى خادمته إلى شعير تطحنه ثم نسفته ثم أنضجته وأدمته بزيت وجعلت عليه فلفلاً فتغديت أنا وأخي معه وأقمنا عنده ثلاثة أيام ندور معه في بيوت نسائه ثم أرجعنا إلى بيتنا وأتاني رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد ذلك وأنا أساوم في شاة، فقال: (اللهم بارك له في صفقته)، فو الله ما بعت شيئاً ولا اشتريت إلا بورك فيه.
وفي الحديث عن العباس بن موسى بن جعفر (عليه السلام)، قال: سألت أبي عن المآتم، فقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما انتهى إليه قتل جعفر (رضي الله عنه)، دخل على أسماء بنت عُميس امرأة جعفر، فقال: أين بنيّ فدعت بهم وهم ثلاثة عبد الله وعون ومحمد فمسح رسول الله (صلى الله عليه وآله) على رؤوسهم فقالت: إنك تمسح رؤوسهم كأنهم أيتام فتعجب رسول الله (صلى الله عليه وآله) من عقلها، فقال: يا أسماء ألم تعلمي أن جعفر (رضي الله عنه) استشهد. فبكت فقال (صلى الله عليه وآله): لا تبكي فإن جبرائيل (عليه السلام)، أخبرني أن له جناحين في الجنة من ياقوت أحمر، فقالت: يا رسول الله لو جمعت الناس وأخبرتهم بفضل جعفر لا ينسى فضله، فعجب رسول الله من عقلها ثم قال (صلى الله عليه وآله): (ابعثوا إلى أهل جعفر طعاماً).
هكذا انطوت صفحة مشرقة من صفحات تاريخنا الإسلامي متمثلة في سير الشهيد جعفر الطيار (رضي الله عنه)، فسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً.
معركة مؤتة:-
والمتحدّث عن الكرك لابدّ له أن يتحدّث عن أهم أقضيتها وهو قضاء (مؤتة) الواقع على بعد عشرة كيلو مترات إلى الجنوب من الكرك.
يتحدّث ياقوت الحموي في [معجم البلدان] تحت مفردة (مؤتة) فيقول: (مؤتة قرية من قرى البلقاء في حدود الشام، وقيل مؤتة من مشارف الشام وبها كانت تُطبع السيوف وإليها تُنْسب المشرفية من السيوف).
وينقل ياقوت في (ج5، ص 254) من [معجمه] كلاماً عن مؤتة، فيقول: (مآب وأذرح مدينتا الشراة، على اثني عشر ميلاً من أذرح ضيعة تُعرف بمؤتة بها قبر جعفر بن أبي طالب. بعث النبي (صلى الله عليه وآله) إليها جيشاً في سنة ثمان للهجرة (630م) فساروا حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء - عند أم الرَّصاص إلى الجنوب الشرقي من مأدبا - لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يُقال لها مؤتة فالتقى الناس عندها فلقيتهم الروم في جمع عظيم).
ومؤتة تقع إلى جنوبي مدينة الكرك على مسافة عن مركز المحافظة تقدَّر بنحو (76 كم2). ويتداخل اسم المدينة وتاريخها مع تلك المعركة الشهيرة التي وقعت بين المسلمين والمشركين في العام (8هـ - 630م)، حيث قاد جيوش المسلمين جعفر بن أبي طالب (عليه السلام). وعن سبب معركة مؤتة يذكر محمد بن عمر الواقدي (المتوفى سنة: 207هـ) في (ج2 ص 755) من كتابه [المغازي] فيقول: (بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحارث بن عُمَير الأزدي ثم أحد بني لهْب إلى ملك بخصرى وهي قطبة من أعمال الشام بكتاب، فلما نزل مُؤتة عرض له شُرَحْبيل بن عمرو الغسّاني وهو من كبار بلاط قيصر، فقال: أين تريد؟ قال: الشام، قال: لعلك من رُسُل محمد؟ قال: نعم، أنا رسول الله. فأمر به فأوثق رباطاً، ثم قدّمه فضرب عنقه صبراً. فبلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله) الخبر فاشتد عليه، وندب الناس وأخبرهم الحارث ومن قتله، فأسرع الناس وخرجوا فعسكروا بالجرف).
ويضيف الواقدي في (ج2 ص 758) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) (خرج مشيِّعاً لأهل مؤتة حتى بلغ ثنّية الوداع، فوقف ووقفوا حوله، فقال: اغزوا بسم الله، فقاتلوا عدوّ الله وعدوكم بالشام، وستجدون فيها رجالاً في الصوامع (جمع صومعة وهي بيت عبادة النصارى) معتزلين للناس، فلا تعرضوا لهم، وستجدون آخرين للشيطان، في رؤوسهم مفاخر فاقلعوها بالسيوف ولا تقتلُنَّ امرأة ولا صغيراً ولا مُرضعاً ولا كبيراً فانياً، ولا تغرقنّ نخلاً ولا تقطعن شجراً ولا تهدموا بيتاً).
نختصر هنا ما كتبه أبو الفداء ابن كثير (ت: 774هـ 1372م) وهو يتحدّث عن غزوة مؤتة فيقول ما مضمونه: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعث سرية إلى مؤتة في جمادى الأولى من سنة ثمان للهجرة فتجهَّز الناس وخرج القوم وخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) يشّيعهم، ثم مضوا حتى نزلوا معاناً من أرض الشام. فبلغ الناس أن هرقل (ت: 641م) قد نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم، وانضم إليه من لخم وجذام وبلقين. أو كما يعبِّر مؤرّخ: إن هرقل إنّما نزل بمآب في مائة ألف من الروم ومائة ألف من المستعربة فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين ينظرون في أمرهم، وقالوا نكتب إلى رسول الله نخبره بعدد عدونا فإما أن يمدنا بالرجال، وإمّا أن يأمرنا بأمره فنمضي له، قال فشجَّع الناس أحدهم وقال: يا قوم والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعددٍ ولا قوة ولا كثرة ما نقاتلهم إلاّ بهذا الدين الذي أكرمنا الله به. فانطلقوا فإنّما هي إحدى الحُسنيين، إما ظهور عليهم فذلك ما وَعَدنا الله ووعدنا نبينا وليس لوعده خُلْفٌ وإما شهادة فنلحق بالإخوان نرافقهم في الجنان.
وهكذا مضى جيش المسلمين حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف، ثم دنا العدو وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها (مؤتة) فالتقى الناس عندها فتعبأ لهم المسلمون. فقاتل جعفر بن أبي طالب (عليه السلام) القوم حتى قُتل، وتسلّم قيادة الجيش من بعده زيد بن حارثة ثم عبد الله بن رواحة.
شهداء مؤتة:-
لقد استشهد في معركة مؤتة كلٌ من:
1- جعفر بن أبي طالب ابن عم النبي محمد (صلّى الله عليه وآله).
2- زيد بن حارثة.
3- عبد الله بن رواحة.
4- مسعود بن الأسود بن حارثة.
5- عامر بن لؤي.
6- مالك بن حُسيل.
7- وهب بن سعد بن أبي سرح.
8- سراقة بن عمرو بن عطية.
9- الحارث بن النعمان بن يساف.
10 - عُبادة بن قيس.
ولقد أدرجت أسماء هؤلاء الشهداء في نصب جميل أقيم عند مدخل مؤتة.
زيد بن حارثة
وفي مدينة المزار بمحافظة الكرك بالأردن إلى الغرب من مرقد جعفر الطيّار بحوالي (150 متر) يقع مرقد الشهيد زيد بن حارثة بن سراحيل بن كعب بن عبد العزي بن امرئ القيس بن عامر بن النعمان، وينتهي نسبه إلى (القضاعي) يذكر ابن كثير في [البداية والنهاية: ج 4 ص 204] وهو يتحدث عن فضل شهداء مؤتة: (إن أم زيد بن حارثة ذهبت تزور أهلها فأغارت عليهم خيل فأخذوه، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد، وقيل اشتراه رسول الله (صلى الله عليه وآله) لها فوهبته من رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبل النبوة فوجده أبوه فاختار المقام عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأعتقه وزوّجه مولاته أم أيمن، واسمها بركة، فولدت له أسامة بن زيد).
استشهد زيد بن حارثة في مؤتة عام (8هـ - 630م) ودُفن في ذات البقعة التي دُفن فيها جعفر الطيار على مسافة (150 متراً) حيث يقع قبر ابن حارثة في ضريح صغير لا تزيد مساحته عن (12 متراً مربعاً - 3×4) تحيط بغرفة القبر حديقة متواضعة، ولا يُفتح المرقد أمام الزائرين إلاّ نهار الجمعة من كل أسبوع.
عبد الله بن رواحة:-
الشهيد عبد الله بن رواحة واحد من شهداء معركة مؤتة، وفي نسبه يقول المؤرخون: إنه عبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن عمرو بن امرئ القيس الأكبر بن مالك بن الأغر الأنصاري الخزرجي. ويقال في إسلامه: (إنه أسلم قديماً وشَهِدَ العقبة، وكان أحد النقباء - ليلتها - لبني الحارث بن الخزرج، وشَهِد بدراً وأحداً والخندق والحديبية وخيبر).
وعبد الله بن رواحة من شعراء صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) المشهورين، ومما نُقل من شعره في رسول الله (صلى الله عليه وآله):
وفيـــــــنا رســـــول الله نتلو كتابه***إذا انشـقّ معروفٌ من الفجر ساطعُ
يبيت يجافي جــــــنبه عـــن فراشه***إذا استثـــقلت بالمشركين المضاجعُ
أتى بالهــــــدى بعــد العمى فقلوبنا***به موقـــــفات أنَّ مــــــــا قال واقعُ
قضى عبد الله بن رواحة شهيداً في مؤتة، ودفن في المزار على مسافة لا تبعد عن (100 متر) عن قبر زيد بن الحارثة، وعلى بعد حوالي (250 متراً) عن جعفر بن أبي طالب.
يقع ضريح ابن رواحة وسط منتزه كبير، فيما لم يقم بنيان على قبره على الرغم من المساحة الكبيرة هناك، اللهم إلا تلك الغرفة الصغيرة (2×3 م2) التي يتوسطها القبر، ويقوم على رعاية القبر شيخ مسن لا يفتح غرفة الضريح إلا نهار الجمعة أمام الزائرين. يلفت نظرك كثرة وجود الأطفال قريباً من مرقد ابن رواحة، تطلب من ذلك الشيخ المسن حارس القبر تفسيراً لذلك حيث لم نلمح ظاهرة وجود مجموعات من الأطفال قرب مرقدي جعفر وزيد فيجيب: (إنّ الأطفال يقصدون المنتزه المحيط بضريح ابن رواحة للعب كرة القدم)، ويضيف: وكأنه يجيب عن استغرابنا لاقتصار فتح المقام على نهار الجمعة - يوم العطلة الرسمية الأسبوعية في الأردن - : (إنّ عدد الزوار قليل لانعدام الخدمات في المرقد وما حوله، ولضيق المكان حيث لا يتسع لأكثر من ثلاثة أشخاص ولا توجد قريباً منه مرافق صحية وأماكن للوضوء).
محافظة (الكرك) - في الأردن - في حديث المؤرّخين:-
لقد ذكر المؤرّخون والرحالة مدينة الكرك في ما كتبوا من مؤلّفات فهذا الرحالة الأندلسي حمد بن أحمد بن جُبير (ت 614هـ - 1217م) يذكر أنه سمع في رحلته أن أربعمائة قرية كانت تتبع الكرك، وفي ذلك يقول بالنص: (بين الكرك وبين القدس مسيرة يوم أو أشفّ - أكثر - قليلاً وهو سراة أرض فلسطين عظيم الاتساع، متصل العمارة، يذكر أنه ينتهي إلى أربعمائة قرية).
أما ياقوت الحموي (ت 626هـ - 1228م) فذكر الكرك في (المجلد: 4 ص 514) من مؤلّفه الشهير [معجم البلدان] فقال: (قلعة حصينة جداً في طرق الشام من نواحي البلقاء في جبالها بين أيلة (العقبة) وبحر القلزم (البحر الأحمر) وبيت المقدس، وهي على سنّ جبلٍ عال تحيط بها أودية إلاّ من جهة الربض.
ووصف الكرك إسماعيل أبو الفداء (ت 732هـ - 1331 م) في كتابه [تقويم البلدان] قائلاً: (.. وهي بلد مشهورو له حصن عالي المكان، وهو أحد المعاقل التي لا تُرام، وتحت الكرك وادٍ فيه بساتين كثيرة وفواكهها مفضَّلة من المشمش والرمان والكمثري وغير ذلك).
ونقرأ فيما كتبه زكريا بن محمد القزويني (ت 682هـ - 1283م) في كتابه [آثار البلاد وأخبار العباد] نقلاً عن الجيهاني قوله: (مؤتة من أعمال البلقاء من حدود الشام، أرضها لا تقبل اليهود ولا يتهيّأ أن يدفنوا بها). ومن عجائبها أن لا تلد بها عذراء، فإذا قربت المرأة ولادتها خرجت منها، فإذا وضعت عادت إليها. والسّيوف المشرفية منسوبة إليها لأنّها من مشارف الشام. قال الشاعر:
أبى الله وللشمّ الأُنوف كأنَّهم***صـوارم يجلوها بمؤتة صيقلُ
المزار (المدينة والأضرحة):-
تضم مدينة الكرك العديد من الأماكن الدينية، ولقد قامت على بعض تلك الأماكن أضرحة شهداء معركة مؤتة التي تحدّثنا عنها في الصفحات السابقة، ولعلّ أبرز تلك الأضرحة وأهمّها هي أضرحة: الشهيد جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة، والحارث بن النعمان، وعبد الله بن سهل، وسعد بن عامر بن النعمان القيسي وغيرهم.
ولقد سُميت المنطقة التي دفن بها أولئك الشهداء بمدينة المزار نسبةً إلى تلك المزارات. والمدينة تبعد عن مركز المحافظة حوالي (75 كم).
عندما تدخل مدينة (المزار) تستشعر وكأن ترابها يعبق بدماء شهداء معركة مؤتة، على الرغم من مضي ما لا يقل عن أربعة عشر قرناً من الزمان! تستقبلك ساحة صغيرة فيها بعض الشتول الصغيرة لأشجار الصفصاف، يتوسَّطها نصب مكعَّب الشكل كتبت عليه أسماء الجلالة بالخط العربي الكوفي، وعلى شمال هذه الساحة ثمة نصب كبير على شكل كتاب مفتوح كتبت عليه أسماء شهداء موقعة مؤتة بالخط الكوفي أيضاً. وقد أحاطت بالنصب أشجار الصفصاف بأغصانها الفارعة وبأوراقها الفضية الجميلة التي تتمايل وتهتز مع هواء المدينة العليل. ويُحيط بنصب الشهداء سياج حديدي مطلي باللون الأسود.
تستغرب الهدوء السائد في منطقة المزارات وما حولها حيث تتخيل نفسك وكأنك في مدينة خارج الزمن أو خارج الكون كله لشدة الهدوء. على يمين الساحة يقع مرقد جعفر الطيّار بن أبي طالب، أما على الشمال من البوابة الكبيرة لمرقد الطيار فيستقبلك متحف وقعة مُؤتة الذي يفتح عادةً نهار يوم الجمعة من كل أسبوع. تقف قبالة البوابة الكبيرة يمتد أمامك رواق طويل تحيط به أشجار باسقة من الجانبين، يمتد هذا الرواق حتى يصل إلى باحة واسعة خُصِّصت لإقامة صلاة يوم الجمعة، وذلك في حال عدم اتساع المكان للمصلّين في مرقد جعفر الطيار لأداء هذه الفريضة. أما على جانبي الرواق الطويل فالجانب الأيمن لدى دخولك للمرقد قد يتكوّن من باحة كبيرة تنتهي بمرافق صحيّة قسم منها للنساء وآخر للرجال، وفي الجانب الشمالي من الرواق أنشئت مقاعد من الإسمنت لراحة واستراحة الزائرين مظلّلة بسقف واسع يحجب عن الزائرين شمس الصيف الحارقة في تلك البلدة، وأمطار الشتاء قليلة الهطول هناك.
ومما يثير العجب أنّ كلّ الهدوء المحيط بالمرقد يتحول عند مواعيد الصلاة إلى حضور متواصل من المصلين القادمين من المدينة حيث تغلق كل المحلات أبوابها لأداء فريضة الصلاة حيث لا يتأخر عنها أي كان إلاّ لعذر يمنعه من السير على قدميه وليس هناك أجمل من منظر المصلين وهم قادمون واحداً بعد الآخر بثيابهم البيضاء وأغطية رؤوسهم البيضاء أيضاً، ويقفون صفاً منتظماً للوضوء ثم يدخلون المرقد لأداء الصلاة وبعد الانتهاء يعود المزار إلى وحدته وخلوته إلاّ من بعض الطلاب الأجانب الذين يجلسون بكل هدوء لقراءة بعض آيات القرآن الكريم.