ورد عمر بن الخطاب على الحباب فقال :( هيهات لا يجتمع اثنان في قرن ( 1 ) والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم وولي أمرهم فيهم ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل أو متجانف لإثم ( 2 ) أو متورط في هلكة ) . فقام الحباب بن المنذر فقال :( يا معشر الأنصار املكوا على أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر فإن أبوا علكم ما سألتموه فأجلوهم عن هذه البلاد وتولوا عليهم هذه الأمور فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم فإنه بأسيافكم دان لهذا الدين من دان ممن لم يكن يدين أنا جذيلها ( 3 ) المحكك وعذيقها المرجب أما والله لو شئتم لنعيدنها جذعة )لقد لج الحباب في الخصومة واستعمل في خطبته ألفاظا شديدة وحرض الأنصار على إجلاء المهاجرين من المدينة إذا لم يولوهم الخلافة وتوعدهم بالشر لذلك قال له عمر محتدا إذن يقتلك الله . قال : بل إياك يقتلكقال أبو عبيدة : ) يا معشر الأنصار إنكم أول من نصر وآزر فلا تكونوا أول من غير وبدل )وعندئذ قام بشير بن سعد بن ثعلبة بن الجلاس الخزرجي الأنصاري ويكنى أبا النعمان فقال :( يا معشر الأنصار إنا والله كنا أولى فضيلة في جهاد المشركين وسابقة في هذا الدين ما أردنا به إلا رضا ربنا وطاعة نبينا والكدح لأنفسنا . فما ينبغي لنا أن نستطيل على الناس بذلك ألا إن محمدا صلى الله عليه وسلم من قريش وقومه به أحق وأولى وايم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبدا فاتقوا الله ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم )فأراد أبو بكر بحكمته أن يضع حدا لهذا الخلاف خشية استحكامه فرشح للخلافة اثنين من المهاجرين قائلا : ( هذا عمر وهذا أبو عبيدة فأيهما شئتم فبايعوا )فقالا : ( لا والله لا نتولى هذا الأمر عليك فإنك أفضل المهاجرين وثاني إثنين إذ هما في الغار وخليفة رسول الله على الصلاة والصلاة أفضل دين المسلمين فمن ذا ينبغي له أن يتقدمك أو يتولى هذا الأمر عليك أبسط يدك نبايعك ) . فلما ذهبا ليبايعاه سبقهما إليه بشير بن سعد فبايعه فهو على ذلك أول من بايع أبا بكر الصديقولما رأت الأوس ما صنع بشير بن سعد وما تدعو إليه قريش وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة قال بعضهم لبعض وفيهم أسيد بن حضير ( الذي كان رئيس الأوس يوم بعاث ومن أحسن الناس صوتا بالقرآن وكان أحد المشهود لهم بالعقل وأحد النقباء ) :والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة لا زالت لهم بذلك الفضيلة ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيبا أبدا فقاموا إليه فبايعوه فأنكر على سعد بن عبادة وعلى الخزرج ما كانوا أجمعواه له من أمرهمولم يلق الرأي الذي قاله الأنصار ( منا أمير ومنكم أمير ) قبولا حتى سعد نفسه فإنه لما سمع به قال : ( هذا أول الوهن ) لأن انقسام القوة موهن لها و كذا رفضه عمر حيث قال : ( هيهات لا يجتمع اثنان في قرن ) وأسرع عمر في مبايعة أبي بكر علما منه بمكانته واعترافا بفضلهأقبل الناس يبايعون أبا بكر من كل جانب وأقبلت أسلم بجماعاتها حتى تضايقت بهم السكك فبايعوا فكان عمر يقول : ( ما هو إلا أن رأيت أسلم فأيقنت بالنصر ) وكاد الناس من شدة الزحام يطأون سعد بن عبادة الذي كان يومئذ مريضا ولا يستطيع النهوض وحدثت بينه وبين عمر مشادة وأخيرا حمل سعد وأدخل في داره وترك أياما ثم بعث إليه أن أقبل فبايع فقد بايع الناس وبايع قومك فقال :( أما والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبل وأخضب سنان رمحي وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني من قومي فلا أفعل . وايم الله لو أن الجن اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي وأعلم ما حسابي )هذا ما أجاب به سعد من دعوه إلى مبايعة أبي بكر بعد أن علم أن البيعة قد تمت ولكن ماذا يفيد امتناعه عن البيعة وليس له أنصار ولا أغلبية لقد طمع في الخلافة وظن أن قومه سيقاومون ويتمسكون به إلى آخر رمق من حياتهم . إنه توعد وهدد بمفرده لذلك لم يكترث به أحد فتركوه وشأنهفلما علم أبو بكر بما قال سعد قال له عمر : لا تدعه حتى يبايع . فقال له بشير بن سعد : إنه قد لج وأبى وليس بمبايعتكم حتى يقتل وليس بمقتول حتى يقتل معه ولده وأهل بيته وطائفة من عشيرته فاتركوه فليس تركه بضاركم إنما هو رجل واحد . فتركوه عملا برأي بشير
________
( 1 ) القرن : الجبل ولا يقال للجبل قرن حتى يقرن فيه بعيران
( 2 ) متجانف لإثم : أي مائل متعمد( 3 ) الجذل : أصل الشجرة وعود ينصب لتحتك به الجربى من الإبل فتستشفى به والعذق : النخلة بحملها وقول الحباب : " أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب " مثل يضرب لمن يستشفى برأيه ويعتمد عليه أي قد جربتني الأمور ولي رأي وعلم يستشفى بهما كما تستشفى هذه الإبل بهذه الجذل . وصغره على جهة المدح وصغر الغذق على جهة المدح أو التعظيم . والترجيب : أن تدعم الشجرة إذا كثر حملها لئلا تتكسر أغصانها . وقيل ترجيبها هو أن يوضع الشوك حوالي الأعذاق لئلا يصل إليها فلا تسرق . وقد أراد بالترجيب التعظيم
تخلف علي رضي الله عنه عن البيعةقال الزهري : ( بقي علي وبنو هاشم والزبير ستة أشهر لم يبايعوا أبا بكر حتى ماتت فاطمة رضي الله عنها فبايعوه ( 1 ) ) وكانت فاطمة أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك ( 2 ) وما بقي من خمس خيبر فأبى أبو بكر أن يدفع إليها شيئا لأن رسول الله قال : ( لا نورث ما تركناه صدقة ) فوجدت فاطمة على أبي بكر الصديق في ذلك ولم تكلمه حتى توفيتوقد كان علي رضي الله عنه يرى أنه أحق بالخلافة من أبي بكر لقرابته من رسول الله لذلك فقد تخلف عن البيعة ( 3 ) مع أن رسول الله لما مرض وتعذر عليه الخروج إلى الصلاة . قال مروا أبا بكر فليصل بالناس . فقالت له عائشة : يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق إذا قام مقامك لا يسمع الناس من البكاء قال : مروا أبا بكر فليصل بالناس . فعاودته مثل مقولتها . فقال : إنكن صواحبات يوسف . مروا أبا بكر فليصل بالناس . وفي تقديمه أبا بكر إلى الصلاة إشارة إلى أنه الخليفة بعده قال الزبير : لا أغمد سيفا حتى يبايع علي . فقال عمر : خذوا سيفه واضربوا به الحجر . ثم أتاهم عمر فأخذهم للبيعة . وقيل لما سمع علي ببيعة أبي بكر خرج في قميصه ما عليه إزار ولا رداء عجلا حتى يبايعه ثم استدعى إزاره ورداءه فتجلله . قال ابن الأثير : والصحيح أن أمير المؤمنين ما بايع إلا بعد ستة أشهروممن تخلف عن بيعة أبي بكر عتبة بن أبي لهب وخالد بن سعيد والمقداد بن عمرو وسلمان الفارسي وأبو ذر وعمار بن ياسر والبراء بن عازب وأبي بن كعب ومالوا مع علي وتخلف أيضا أبو سفيان من بني أمية
_________
( 1 ) أصح الأقوال أن فاطمة توفيت بعد رسول الله بستة أشهر( 2 ) قرية بخيبر( 3 ) وفي أسد الغابة رواية عن يحيى بن عروة المرادي قال سمعت عليا رضي الله عنه يقول قبض النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أرى أني أحق بهذا الأمر . فاجتمع المسلمون على أبي بكر فسمعت وأطعت . ثم إن أبا بكر أصيب فظننت أنه لا يعدلها عني . فجعلها في عمر فسمعت وأطعت . ثم إن عمر أصيب فظننت أنه لا يعدلها عني فجعلها في ستة أنا أحدهم فولوها عثمان فسمعت وأطعت . ثم إن عثمان قتل فجاءوا فبايعوني طائعين غير مكرهين . الخبعد أن بويع أبو بكر جهز رسول الله ودفن ليلة الأربعاء وقد غسل في قميصه وغسله العباس والفضل وقثم ابنا العباس وأسامة بن زيد وشقران مولى رسول الله وحضرهم أوس بن خولى الأنصاري من بئر يقال لها الغرس لسعد بن خثيمة بقباء وكان العباس وابناه يقلبونه وأسامة وشقران يصبان الماء وعلي يغسله وعليه قميصه وهو يقول ( بأبي أنت وأمي ما أطيبك حيا وميتا ) . وكفن في ثلاثة أثواب يمانية ( 1 ) بيض من كرسف ( قطن ) ليس في كفنه قميص ولا عمامة ولا عروةوبعد أن غسل رسول الله وكفن وضع على سرير وأدخل عليه المسلمون أفواجا يقومون ويصلون عليه ثم يخرجون ويدخل آخرون ولم يؤمهم في الصلاة عليه إمام حتى إذا فرغت الرجال دخلت النساء ثم دخل الصبيانوكان أول من دخل أبو بكر وعمر . فقالا : ( السلام عليك أيها النبي . . ورحمة الله وبركاته ) ومعهما نفر من المهاجرين والأنصار قدر ما يسع البيت فسلموا كما سلم أبو بكر وعمر وصفوا صفوفا لا يؤمهم عليه أحد فقال أبو بكر وعمر وهما في الصف الأول حيال رسول الله :( اللهم إنا نشهد أن قد بلغ ما أنزل عليه ونصح لأمته وجاهد في سبيل الله حتى أعز الله دينه وتمت كلماته فآمن به وحده لا شريك له . فاجعلنا يا إلهنا ممن يتبع القول الذي أنزل معه واجمع بيننا وبينه حتى يعرفنا ونعرفه فإنه كان بالمؤمنين رؤوفا رحيما . لا نبتغي بالإيمان بديلا ولا نشتري به ثمنا أبدا )فيقول الناس آمين آمين ثم يخرجون ويدخل غيرهم . ولما فرغوا نادى عمر حلوا الجنازة وأهلهاولما اختلفوا في موضع دفنه قال أبو بكر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما مات نبي قط إلا يدفن حيث تقبض روحه ) قال علي : وأنا أيضا سمعته فرفع فراشه ودفن . ولما أرادوا أن يحفروا لرسول الله كان بالمدينة رجلان أبو عبيدة بن الجراح يضرح لأهل مكة وكان أبو طلحة الأنصاري هو الذي يلحد لأهل المدينة . فجاء أبو طلحة وألحد لرسول الله وجعل في قبره قطيفة حمراء كان يلبسها فبسطت تحته وكانت الأرض ندية ورش قبره صلى الله عليه وسلم بلال بتربة بدا من قبل رأسه وجعل عليه من حصباء العرصة ( 2 ) حمرا وبيضا ورفع قبره عن الأرض قدر شبر ونزل قبره علي والفضل وقثم ابنا العباس وشقران وأوس بن خولى الأنصاري
_________
( 1 ) وقيل : في ثلاثة أثواب سحولية . وسحول - مثل رسول - بلدة باليمن يجلب منها الثياب( 2 ) عرصة الدار : ساحتها وهي البقعة الواسعة التي ليس فيها بناء والجمع عراص وعرصات
بعد أن تمت بيعة أبي بكر بيعة عامة صعد المنبر وقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه :( أيها الناس قد وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني الصدق أمانة والكذب خيانة والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له حقه والقوي عندي ضعيف حتى آخذ منه الحق إن شاء الله تعالى لا يدع أحد منكم الجهاد فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم قوموا إلى صلاتكم رحمكم الله ( 1 ) )فيا لها من كلمات جامعة حوت الصراحة والعدل مع التواضع والفضل والحث على الجهاد لنصرة الدين وإعلاء شأن المسلمين
_________
( 1 ) الجزء الثاني من تاريخ الكامل لابن الأثير- يوم الأربعاء 14 ربيع الأول سنة 11ه ( 11 حزيران - يونيه 6م )كان رسول الله قد استعمل أسامة بن زيد وأمره بالتوجه إلى حدود الشام للأخذ بثأر من قتل في غزوة مؤتة وقد كان رسول الله قد ضرب البعث على أهل المدينة ومن حولها وفيهم عمر بن الخطاب وعسكر جيش أسامة بالجرف ( 2 ) فاشتكى رسول الله ثم وجد من نفسه راحة فخرج رسول الله عاصبا رأسه فقال :( أيها الناس أنفذوا جيش أسامة ) ثلاث مرات . وقال : ( إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبله وايم الله إنه كان خليقا للإمارة وايم الله إنه لمن أحب الناس إلي من بعده )وذلك لأن الناس طعنوا في إمارة أسامة لأنه كان شابا لم يتم العشرين من عمره